اعتاد الناس منذ القدم أن يعتمدوا حوادثَ بعينها، لتكون تقويماً لهم، يسهل عليهم من خلالها تحديد التواريخ وتقريبها من الأذهان، فقديماً قالوا عام الفيل، وعام "الرمادة"، وغيرها الكثير من التقويمات، والتي ترتبط عادة بحوادث كبيرة ومؤثرة، سواء أكانت خيراً أو شراً.
وفي مدينة "الرقة"، تختزن الذاكرة الشعبية الكثير من هذه التقويمات، وهي مشتركة بين كافة محافظات المنطقة الشرقية، لقربها من بعضها البعض، وتشابه الظروف الاجتماعية والجغرافية فيها، ولعلَّ التقويم الأكثر قرباً من قلوب أهالي المنطقة، هو سنة "الدوكماه"، والذي يرتبط بموسم الخير الذي جاء إلى المنطقة منذ ربع قرن تقريباً من الآن
كلمة "دوكماه"، هي كلمة تركية، وقد اصطلح الناس على استخدامها كمرادف لكلمة "فَلْتْ" العاميَّة، فمثلاً منذ سنوات عديدة كان الناس يطلقون على السجائر التي ليس لها "فلتر" اسم "دوكماه". ويقصد بهذه الكلمة في موضوعنا هذا، هو الموسم الذي اضطر فيه الناس إلى نقل من حقول القمح وبيع القمح والشعير الذي جنوه من أراضيهم، دون وضعه في أكياس بل بواسطة الشاحنات، وذلك بسبب عجزهم عن تأمين الأكياس يكفي لهذه الكميات الكبيرة من الحبوب، والتي فاجأت الجميع، فالمزارع الذي كانت تنتج أرضه في السنوات العادية /500/ كيساً "شوال" من القمح أو الشعير، أنتجت في سنة "الدوكماه" ما يعادل ضعفين، أو ثلاثة أضعاف هذا الرقم.
ويعود تاريخ سنة "الدوكماه" إلى عام /1988/م، وأعتقد أنه لا يوجد مزارع أو فلاح في المنطقة الشرقية، إلا ويذكر هذا العام ويترحَّم عليه، كيف لا؟ وهو الذي جاء حاملاً معه الخير إلى المنطقة بأسرها، حيث أن هذا الخير نال الجميع من فقراء وأغنياء. وقد بلغ منسوب الأمطار في محافظة "الرقة" في ذلك العام، حوالي /400/ ملم، علماً أن متوسط الهطولات المطرية في المحافظة لا يتجاوز عادةً /210/ ملم تقريباً، وهذه الحالة تعتبر من الطفرات المناخية التي أصابت المنطقة، والدليل على ذلك، هو أننا لم نسمع سابقاً عن موسم يضاهي هذا الموسم، كذلك ولم نرَ إلى الآن ما يشبهه من مواسم، وأذكر آنذاك أن الحكومة السورية سمحت لمالكي الحصَّادات من الدول المجاورة مثل تركيا والأردن، بممارسة العمل في الأراضي السورية، وذلك كون الآليات الموجودة لا تفي بالغرض.
وقد أصبح عام /1988/م، أو ما يعرف بسنة "الدوكماه" تقويماً خاصاً بأهالي المنطقة الشرقية، فكثيراً ما نسمع إلى الآن شخصاً يقول: لقد تزوجت قبل سنة "الدوكماه" بعامين، أو: توفي فلان بعد سنة "الدوكماه" ببضعة أشهر، وهكذا.
طبعاً هذا التقويم لا يستخدمه إلا من عاصره، أي من كان مدركاً للأمور في عام /1988/م، فلا يعقل أن تجد طفلاً أو شاباً في أيامنا هذه، لم يشهد عام "الدوكماه"، وهو يستشهد به، وأعتقد أن هذا التقويم سيزول مع رحيل المعاصرين له، لكنه سيبقى في ذاكرة الكثيرين ممن سمعوا عن هذا العام وخيراته